تونس- صراع الديمقراطية بين الاستبداد، الدستور، ومستقبل الشعوب

المؤلف: د. سليمان صالح08.13.2025
تونس- صراع الديمقراطية بين الاستبداد، الدستور، ومستقبل الشعوب

منذ أمد بعيد، كان شبح الخطر يخيم على تونس، وذلك لأن شعبها هو الذي أشعل فتيل الإلهام في نفوس الشعوب العربية، وقادها نحو الثورة العارمة ضد الاستبداد والقهر، ساعيًا بكل ما أوتي من قوة لانتزاع الحرية الغائبة، التي حجبت شمسها عن سماء الأمة طيلة القرنين المنصرمين.

فلو قدر للديمقراطية أن تترسخ وتزدهر في تونس، لأصبحت منارةً ومثالًا يُحتذى به، تتطلع إليه قلوب العرب المشتاقة للحرية، ليسلكوا الدرب نفسه، ويكافحوا ببسالة من أجل بناء تجاربهم الديمقراطية الخاصة، تلك التي تحقق لهم الاستقلال الناجز والتقدم المطرد، القائم على الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الذات.

المعرفة حق أصيل للأمة

منذ حقبة طويلة وأنا أولي اهتمامًا بالغًا بالأحداث المتسارعة في تونس، ومن أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذه المتابعة الدقيقة، أن وسائل الإعلام المختلفة سعت جاهدة لإغراق الأمة في متاهة من التفاصيل الثانوية، بغية حجب الحقيقة الناصعة وتزييف الوعي العام، وذلك من خلال التركيز على الخلافات الدائرة بين الأحزاب والتوجهات السياسية التونسية المتناحرة، وما يحدث داخل أروقة البرلمان من جدالات ونقاشات حادة، بالإضافة إلى الهتافات المدوية التي يطلقها العلمانيون ضد رئيس المجلس راشد الغنوشي.

ولكن المخطط الخبيث كان أبعد غورًا وأعظم خطرًا من مجرد تلك التفاصيل السطحية، فقد كانت القوى الاستعمارية المتربصة والقوى الاستبدادية المتجذرة تعمل بدأب على إثارة سحابة كثيفة من الدخان في سماء تونس، بهدف تضليل شعبها الأبي وتزييف وعيه الحر، والتلاعب به بشتى الطرق والوسائل، لمنعه من تطوير تجربته الديمقراطية الفريدة وتقرير مصيره بنفسه دون وصاية أو تدخل.

إن الدستور هو الركيزة الأساسية التي تتفق عليها جميع القوى السياسية والفكرية، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، لإدارة شؤون المجتمع وتنظيم الحياة العامة وحماية الحريات المصونة، ولذلك كان الحفاظ على دستور 1923 وتطبيقه بحذافيره، من أهم المحاور الجوهرية لكفاح الشعب المصري العظيم قبل عام 1952

لقد كانت قوى الاستعمار والاستبداد تدير المشهد السياسي التونسي بحنكة ودهاء، فتدفع العلمانيين بكل قوتها لتدمير التجربة الديمقراطية الوليدة، كما حدث في مصر الشقيقة قبل الانقلاب المشؤوم في 3 يوليو/تموز 2013، ولعل من أبرز النتائج الإيجابية التي جنتها الأمة في سنواتها العجاف، أن حقيقة العلمانيين قد تجلت بوضوح للعيان، فقد انكشف زيف ادعائهم وتبين أنهم يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية خداعًا وتضليلًا للشعوب، وأنهم في حقيقة الأمر لا يؤمنون بتداول السلطة سلميًا، ولا يعترفون بحق الشعب الأصيل في اختيار المشروع الذي يبني على أساسه مستقبله الزاهر، وأنهم لا يترددون في تدمير التجربة الديمقراطية برمتها إذا ما اختارت الشعوب الاتجاه الإسلامي طريقًا لها، وهذا ما يوضح بجلاء عدم إخلاصهم لقضية الديمقراطية العادلة، كما أنهم يطبقون معايير مزدوجة تتنافى مع مبادئ العدل والإنصاف، وتشكل أساسًا راسخًا للظلم والاستبداد.

أصل الداء ومكمن الخلل

ولكن يبقى السؤال المحير مطروحًا: لماذا يقف العلمانيون في صفوف الاستبداد والدكتاتورية، ويؤيدون الانقلابات العسكرية الظالمة في مواجهة الاتجاه الإسلامي؟!

إن الدراسة المتعمقة لتاريخ الأحزاب العلمانية في مختلف البلدان، تكشف بوضوح عن وجود علاقة وطيدة بين التبعية المطلقة لأميركا ودول الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا، ورفضها القاطع للإسلام، وذلك خشية أن يقود كفاح الشعوب نحو تحقيق الاستقلال الشامل والتحرر من الهيمنة الأجنبية، ولعل شعب تونس الأبي هو الأقدر على إدراك تلك الحقيقة المرة.

إن العلمانيين على استعداد تام لتدمير المجتمعات بأسرها، حتى لا تصبح إسلامية، وذلك يتماشى تمامًا مع موقف فرنسا العدائي من الإسلام، ونشرها المتعمد للإسلاموفوبيا والقوانين الجائرة التي تسنها لفرض القيود والتضييق على المسلمين، بحجة أن الإسلام يتعارض مع قيم الجمهورية العلمانية.

فهل يمكن أن يفسر لنا ذلك تعقيدات المشهد السياسي ليس في تونس وحدها، بل في العديد من الدول العربية والإسلامية؟ وهل يمكن أن يفسر لنا ذلك التحالف المشبوه بين فرنسا والأنظمة الاستبدادية العربية؟

إن الأمة بأمس الحاجة إلى فتح هذا الملف الشائك، وإلى وجود صحافة حرة ونزيهة تكشف الحقائق الدامغة للأمة، فوعي الشعوب ومعرفتها التامة بالعدو المتربص، هما الشرارة الأولى التي تشعل مرحلة الكفاح المرير لتحقيق الاستقلال الشامل.

الدستور هو أساس الديمقراطية.. ولكن!

إن الدستور هو الركيزة الأساسية التي تتفق عليها جميع القوى السياسية والفكرية، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، لإدارة شؤون المجتمع وتنظيم الحياة العامة وحماية الحريات المصونة، ولذلك كان الحفاظ على دستور 1923 وتطبيقه بحذافيره، من أهم المحاور الجوهرية لكفاح الشعب المصري العظيم قبل عام 1952، وكان الاحتلال الإنجليزي الغاشم والملك المستبد يقومان بتعطيل العمل بالدستور بشكل ممنهج ومتعمد، لتمكين وزارات الأقلية التابعة لهما من مقاليد الحكم، وإقصاء الأغلبية الساحقة التي تنجح في الانتخابات النزيهة.

ولكن سرعان ما ظهرت بعد ذلك أساليب أخرى أكثر دهاء وخطورة، ألا وهي تطبيق الدستور بأساليب انتقائية ومعايير مزدوجة، وهذا ما يتناقض بشكل صارخ مع روح الدستور وهدفه الأسمى، فلا يجوز بأي حال من الأحوال استخدام نصوصه لتعطيل الحياة السياسية برمتها، أو حرمان الأغلبية من حقها المشروع في الحكم.

إن قوى الاستبداد والطغيان تتقن فن العبث بالدساتير والتلاعب بها، والبحث الدؤوب عن الثغرات القانونية التي تتيح لها إجهاض التجارب الديمقراطية الناشئة، كما حدث في مصر عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بحل مجلس الشعب المنتخب، بحجة وجود نص غير دستوري في قانون الانتخابات، فألغت بذلك أول مجلس منتخب يختاره شعب مصر العظيم في انتخابات حرة ونزيهة منذ عام 1951.

لذلك لا بد لنا من التأكيد مرارًا وتكرارًا على مبدأ راسخ، وهو أن العبث بالدستور واستغلال الثغرات الموجودة فيه بشكل خبيث، هو انتهاك صارخ للدستور نفسه، وإجهاض سافر للديمقراطية، وتقييد بغيض لحقوق الشعوب.

حالة الضرورة.. ذريعة الطغاة

من أهم الثغرات التي تستغلها قوى الاستبداد والطغيان، ما يطلق عليه مصطلح "حالة الضرورة"، التي تتيح للحاكم المتسلط أن يتخذ من الإجراءات والتدابير ما يراه ضروريًا لحماية الأمن القومي أو السلم العام، في حالة وجود خطر داهم يهدد أمن البلاد واستقرارها، ومن بين تلك الإجراءات القمعية فرض حالة الطوارئ سيئة السمعة، التي تتيح للسلطة التنفيذية عدم التقيد بالإجراءات التي ينص عليها الدستور، خاصة في مجال الحريات العامة المصونة.

لقد قدم الرئيس قيس سعيد نفسه للشعب التونسي الأبي، بأنه أستاذ القانون الدستوري المخضرم، وأن طلبة الجامعة الذين كان يدرس لهم هذا القانون هم الذين دفعوه للترشح لمنصب الرئاسة الرفيع، وهذا يعني أنه بنى صورته الذهنية كرئيس على أساس أنه قادر على حماية الدستور والدفاع عنه بكل ما أوتي من قوة

وفي الكثير من الدول، يتم استغلال هذه الثغرة القانونية بشكل مشين لإجهاض الديمقراطية الناشئة، فحالة الطوارئ مفروضة في مصر منذ عام 2013 وحتى الآن، لكن ذلك يشكل تلاعبًا سافرًا بالدستور، وسوء نية واضحًا في اختيار النصوص التي يتم تطبيقها، وتعسفًا غير مبررًا في استخدام الحق.

إن حالة الضرورة يمكن تصنيعها واختلاقها عن طريق أحداث مفتعلة، مثل المظاهرات والتفجيرات التي دبرها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في القاهرة عام 1954، ودفع العمال البسطاء للهتاف ضد الديمقراطية والمطالبة بإسقاط الدستور.

وقد بدا ذلك واضحًا وجليًا في المشهد السياسي المصري عام 2013، والمشهد التونسي عام 2021، وهذه الأحداث يستغلها الحاكم المستبد لتعطيل العمل بالدستور، وإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، والانفراد بالسلطة المطلقة والسيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة.

لقد قدم الرئيس قيس سعيد نفسه للشعب التونسي الأبي، بأنه أستاذ القانون الدستوري المخضرم، وأن طلبة الجامعة الذين كان يدرس لهم هذا القانون هم الذين دفعوه للترشح لمنصب الرئاسة الرفيع، وهذا يعني أنه بنى صورته الذهنية كرئيس على أساس أنه قادر على حماية الدستور والدفاع عنه بكل ما أوتي من قوة، والمحافظة على حق شعب تونس الأصيل في الديمقراطية الحقة، وبالتأكيد فإن أستاذ القانون الدستوري يعلم علم اليقين أن الدستور يحمي إرادة الشعب وحقوقه الأساسية، ويكفل الحريات العامة المصونة.

وهذا يعني أن أولى خسائر الرئيس قيس سعيد هي صورته الذهنية التي كافح جاهدًا لبنائها، والتي تعتبر ثروته الحقيقية وكنزه الذي لا يفنى، وربما تتشكل له صورة ذهنية جديدة مغايرة تمامًا، باعتباره أول أستاذ قانون دستوري يتلاعب بالدستور بشكل سافر، ويجهض التجربة الديمقراطية الوليدة بدم بارد.

استخدام القوة الغاشمة.. لغة العاجزين

لقد استمعت باهتمام بالغ إلى خطاب الرئيس قيس سعيد، وأرى أنه قد افتقد القدرة على الإقناع المنطقي وتجاوز الدستور والقانون، بل وهدد شعبه بإطلاق وابل من الرصاص عليهم، وهذا يعني بوضوح أنه يستخدم القوة الغاشمة ليمنع شعبه من التعبير عن رأيه بحرية في الإجراءات التي اتخذها، كما أنه استخدم قوة الجيش في إغلاق مبنى البرلمان، ومنع النواب المنتخبين الذين يمثلون الشعب من الدخول إليه.

وهذا يعني بكل بساطة أنه يضرب عرض الحائط بأساس شرعيته، ألا وهو الانتخابات الحرة والنزيهة، فإذا كان هو قد وصل إلى كرسي الرئاسة بأصوات شعبه الحر، فإن النواب أيضًا قد وصلوا إلى مقاعدهم البرلمانية بأصوات هذا الشعب الأبي.

ولكن ماذا سيكسب؟

لو أن الرئيس قيس سعيد قد أحاط نفسه بفريق من المستشارين الأكفاء الذين يدرسون الواقع بعمق وروية، ويستشرفون المستقبل بنظرة ثاقبة، لأوضحوا له بجلاء أن الإجراءات التي اتخذها ستشكل خطرًا جسيمًا عليه شخصيًا، وأنه سيخسر الكثير على المدى الطويل، فالقوى الخفية التي دفعته للانقلاب على إرادة شعبه الحر، سوف تتخلص منه بأسرع ما يمكن بعد أن يقوم بدوره المرسوم في تحقيق أهدافها الخبيثة، لأنها ببساطة لا تريد حاكمًا منتخبًا في أي دولة عربية، وهي بالأساس ضد الانتخابات والديمقراطية والحرية.

أما التجربة المصرية التي يريد أن يستنسخها على أرض تونس، فيمكنه أن يسأل عن نتائجها الوخيمة، وهل سيسمح له شعب تونس الأبي بتكرارها على أرضه.

وكما ألهم شعب تونس شعوب العرب وقادها في ثورات الربيع العربي المباركة، فإنه يمكن أن تلهمه التجربة المصرية المريرة فيتوحد للدفاع عن حقه الأصيل في تقرير مصيره بنفسه، ويعلن رفضه القاطع لهذه الإجراءات التعسفية، حتى لا تصبح تونس نسخة طبق الأصل من مصر.

إن التجربة المصرية المؤلمة قد ألهمت شعب تركيا الأبي، فدافع ببسالة عن ديمقراطيته الناشئة، وتمكن بفضل وعيه ووحدته من كسر الانقلاب العسكري الغاشم، وحقق تقدمًا ملحوظًا في مختلف المجالات، فأصبحت تركيا قوة عالمية يحسب لها ألف حساب، تبني اقتصادًا قويًا ومتينًا يقوم على الصناعة والابتكار والمعرفة والإبداع والتخطيط السليم للمستقبل، وليس على الاقتراض من الخارج.

إن التجربة التركية الرائدة يمكن أن تلهم العديد من الشعوب، وتشكل أمامها نموذجًا ناجحًا يحتذى به، ولذلك أيدت قوى الطغيان العربي الانقلاب الفاشل في تركيا، ولكن خاب أملها وتبددت أحلامها، وأحبط الشعب التركي البطل مخططاتها الخبيثة.

ولكن هناك نتيجة مهمة قد يظهر تأثيرها الإيجابي قريبًا، ألا وهي أن جميع الشعوب العربية والإسلامية سترى الحقائق بوضوح وجلاء، وستنتفض بشكل عفوي للدفاع عن حقها الأصيل في الحياة الكريمة والحرية والديمقراطية والتقدم والازدهار، فهل يقود شعب تونس الأبي كفاح الأمة الإسلامية مرة أخرى ضد الاستبداد والطغيان، ويبدأ مرحلة جديدة من الكفاح المرير دفاعًا عن حريته المسلوبة؟

لا يزال هناك أمل ضئيل في أن يتراجع الرئيس قيس سعيد عن هذه القرارات المتسرعة، بعد أن يدرك حقيقة أن قوى الاستعمار والاستبداد التي دفعته لاتخاذها، لا تريد به خيرًا، وإنما تريد إسقاطه بعد أن تستخدمه كأداة خبيثة في إجهاض آمال شعبه في الحرية والديمقراطية والتقدم، ولعله يفهم أخيرًا أنه يختلف جوهريًا عن أولئك الطغاة المتسلطين، فهو حاكم منتخب من قبل الشعب، وهذا هو مصدر قوته الحقيقية، ويمكنه أن يفكر مليًا في أن يجمع قوى شعبه ويوحدها، ويدير حوارًا وطنيًا شاملًا وحرًا لتقوية التجربة الديمقراطية التونسية بدلًا من أن يحقق أهداف فرنسا وأميركا وطغاة العرب، وهو يعلم جيدًا ماذا يمكن أن يحدث له بعد ذلك.

أما الأحزاب العلمانية التونسية، فلن يكون مصيرها بأي حال من الأحوال أفضل من الأحزاب المصرية التي استدعت الجيش للانقلاب على الديمقراطية الشرعية.

إن الدفاع عن حرية الشعوب والكفاح المستمر من أجل تحقيق الاستقلال الناجز، هو شرف عظيم ومجد خالد لا يستحقه إلا الذين يمتلكون الشجاعة والإقدام، ويتمسكون بالمبادئ والقيم النبيلة ويحافظون عليها، والأمة بأمس الحاجة إلى قيادة رشيدة تقوم على المبادئ السامية والمعرفة الواسعة والأخلاق الحميدة، تقود شعوبها نحو تغيير الواقع الكئيب إلى واقع أفضل ومستقبل مشرق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة